فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم
وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } [القمر: 1-3] .
وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها.
ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والألفاظ محررة، ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته.
وذلك مروي عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
أما أنس فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين.
فقال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر: 1] .
ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات الصحابة.
والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الجميع، وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان.
زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة، وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، لفظ البخاري.
وأما جبير بن مطعم فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين ابن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل.
فقالوا: سحرنا محمد!
فقالوا: إن كان سحرنا؛ فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به أحمد.
وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به.
وقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان، وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به فزاد رجلا في الإسناد.
وأما حذيفة بن اليمان: فروى أبو نعيم في (الدلائل) من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي.
قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر: 1] . ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.
فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة، فلما كنا في الطريق قلت لأبي: ما يعني بقوله - غدا السباق - قال: من سبق إلى الجنة.
وأما ابن عباس فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا بكر عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر - وهو ابن مضر - عن جعفر قوله: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } [القمر: 1-2] .
قال: قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه..
وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { اقتربت الساعة وانشق القمر }.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنوا؟».
قالوا: نعم! وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر وقد سلب نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا.
ثم قال أبو نعيم: وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟
فهبط جبرائيل فقال يا محمد: قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها.
فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر واهب، فأنزل الله: { اقتربت الساعة وانشق القمر }.
ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين؛ أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.
فقالوا: هذا سحر مفترى.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت: { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر }.
وهذا إسناد جيد وفيه أنه: كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض.
ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر.
وأما ابن عمر: فقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد به.
قال مسلم: كرواية مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».
وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو ابن عيينة - به.
ومن حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن سمرة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا».
وذهبت فرقة نحو الجبل. لفظ البخاري.
ثم قال البخاري: وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبد الله - بمكة - وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه.
وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة.
فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار؟ فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به.
قال فسئل السفار قال - وقدموا من كل وجهة - فقالوا رأينا.
وهكذا رواه أبو نعيم: من حديث جابر، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر.
وهكذا رواه ابن جرير: من حديث أسباط، عن سماك به.
وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا اشهدوا».
وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة.
وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين.
ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء.
وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت، وفلقة بقيت.
قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا: هذا سحر مصنوع سيذهب.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «فاشهد يا أبا بكر».
وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.
فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها، وعرف عدالة رجالها، وما يذكره بعض القصَّاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من الكم الآخر فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح.
والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك.
وما وقع في رواية أنس في (مسند أحمد): فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين، والله أعلم.