mardi 27 décembre 2016

اللغة


اللغة


تعتبر اللغة من أهم العناصر التي تميز الكائن البشري إن لم أقل أنها تعد أبرز سمة تصنع تفرد البشر عن باقي 
المخلوقات, و قد بات معلوما في الأوساط العلمية إلى أي حد تؤثر اللغة على الفكر و من ثم على السلوك رغم أنها من نتاج الفكر في حد ذاته, فاللغة و باعتبارها نظاما معقدا من الرموز التي تحمل في طياتها مختلف المعاني و المدلولات على كل الأشياء المجردة و العينية, تبقى من أهم المنافذ المستخدمة من أجل الولوج إلى عمق الثقافة و البيئة الاجتماعية للناس بل و صِياغتهما و توريثهما, و بالضرورة الولوج إلى حقائق الفكر الإنساني في حد ذاته.

لكن ماذا لو عدنا لنلقي نظرة على واقع اللغة و علاقتها بالفكر و السلوك وسط المجتمع الجزائري ؟, و هنا يتوجب علينا الإشارة إلى بعض التصنيفات التي يطرحها علماء اللغة و اللسانيات عن العالم العربي, و هي أنهم يدرجون نسقين لغويين يسيطران على المجتمع العربي, و هما " فصحى التراث " التي يستخدمها أفراد المجتمع بشكل محدود في بعض الأنشطة العرضية كالمطالعة مثلا, أو يستخدمونها في بعض المواقف الرسمية كاستخراج الوثائق الإدارية, أما النسق اللغوي الثاني فهو " فصحى العُمر التي تضم اللهجات العامية " و هي الأكثر انتشارا من النسق الأول, إذ أنها تُستعمل في الحياة اليومية للناس من أجل تحقيق مصالحهم و الاتصال و التواصل فيما بينهم....


 و لو ألقينا نظرة بسيطة عن واقع اللغة في المجتمع الجزائري سنكتشف جملة من الميزات التي تظهر على هذا الواقع, و يمكن أن نخلص إلى بعض هذه الملاحظات في النقاط التالية:

1- يُمكن تمييز أربع أنساق لغوية منتشرة في المجتمع الجزائري بدل اثنين, و هي: اللغة الفرنسية – رغم أن انتشارها يخص بعض الدوائر الضيقة و بعض القطاعات الإدارية –, اللغة العربية الفصحى, اللغة الأمازيغية وفق تفرعاتها الجهوية, و اللهجة الدارجة.

2- بالنسبة للسان الأمازيغي فهنالك إشكال عالق في أوساط علماء اللغة و اللسانيات في الجزائر, و هو الجدلية القائمة بخصوص ما إذا كان يتوجب تصنيف هذا النسق اللغوي في خانة اللغة, أو تصنيفه في خانة اللهجة بسبب افتقاره إلى نظام رمزي هجائي و قواعد نحوية و صرفية موحدة بين جميع مستخدمي هذا النسق على المستوى الوطني, لذلك يرى البعض أنه مجموعة من اللهجات المحلية.

3- بالنسبة للهجة العامية الجزائرية, فهي مزيج هائل مستمد من العربية الفصحى و الأمازيغية و الفرنسية و حتى بعض الرواسب اللغوية التركية, فهي أكثر نسق يُمكن لنا الخروج منه بملاحظات كثيرة و بعض هذه الملاحظات:

- أ  يُلاحظ أن التراكيب اللسانية العامية المستمدة من اللغة الفصحى قد تم تحويرها على مستوى النطق عن طريق الحذف بشكل خاص, مثلا: تحوير كلمة " يستقصي " ( يسأل أو يبحث ) إلى " يسقصي ".

- بـ  بالنسبة للتراكيب المستمدة من الفرنسية فقد تمت قولبتها لتماشي اللسان الجزائري العامي, و لو أمعنا الملاحظة في بعض الكلمات العامية سنجد أنها من أصل فرنسي تمت إعادة صياغته على الأوزان اللغوية العربية, مثلا: كلمة " كاييه " الفرنسية ( كراس ) قد اندمجت تماما في الدارجة الجزائرية بعد أن تغير نطقها قليلا عن أصلها, كما صار جمع هذه الكلمة على وزن عربي خالص " كايِيات "...

- جـ  كما تأثر اللسان الأمازيغي باللغة العربية الفصحى و أخذ منها الكثير من التراكيب و المصطلحات, فهو نفسه أعطى الدارجة الجزائرية الكثير من التراكيب و العبارات, مثلا: يُقال عادة عن الرجل الشهم في المجتمع الجزائري بأنه " درغاز " و هي عبارة أمازيغية من أصل " آرغاز " التي تعني الرجل أيضا, إضافة إلى بعض التراكيب اللغوية القديمة المستمدة من التواجد التركي بالجزائر, مثل عبارة " بقشيش " ذات الأصل التركي التي تعني في المفهوم الجزائري" الرشوة ".

- د  بسبب الشساعة الجغرافية للجزائر و اختلاف أنماطها المعيشية و الثقافية باختلاف مناطقها, فالدارجة الجزائرية نفسها تختلف بأشكال طفيفة أحيانا و متفاوتة أحيانا أخرى بحسب تقارب المناطق من بعضها أو العكس, سواء على مستوى التراكيب أو المضامين أو على المستوى النطقي و الصوتي, فسكان الغرب الجزائري مثلا لهم فنونومات ( النغمات الصوتية ) مختلفة عن فنونومات سكان الشرق حتى في التراكيب و العبارات المشتركة....

 بعد جملة هذه الملاحظات القليلة و المُبسَّطة, و بما أنه لا يوجد شك في أن اللغة تشكل عاملا رئيسيا في صياغة هوية و ثقافة أي مجتمع, يُمكننا الوصول إلى واحد من أهم أوجه أزمة الهوية العميقة التي يعيشها المجتمع الجزائري, و نحن هنا نأود الدخول إلى الواقع المُعاش مباشرة دون الحاجة للحديث عن الخطابات الرسمية التي تُشدّد على الهوية الجزائرية, بأنها تلك العناصر الثلاث المشكلة من العروبة و الأمازيغية و الإسلام...

هناك ملامح أزمة هوية متراكمة, بدأت أولى فصولها مع وقوع الجزائر في قبضة الاحتلال الفرنسي, و ما عمل عليه هذا الأخير من طمس و محو و محاربة و نسخ لكل ما هو جزائري طيلة تواجده, مرورا بالتناقضات و التوجهات الإيديولوجية التي ميزت الفكر الجزائري المعاصر أيام الحركة الوطنية و الثورة و التي بقيت حزازاتها قائمة بعد الاستقلال, و التي جعلت بدورها من انطلاقة دولة الاستقلال الفتية تكون عرجاء من الأساس, و المشكلة هي أن الصراع الإيديولوجي بين الدوائر أو النخب الفرنكوفونية و الدوائر المُعرَّبة في دواليب النظام قد ألقى بنتائجه و تبعاته لاحقا على القالب العام للبلد, و الذي أثر على قالب العقل و الشخصية الجزائرية ككل.

إضافة إلى كل ذلك فقد لعبت سنوات الأزمة و الفوضى الجزائرية الدور الرهيب في تكريس ابتعاد المجتمع عن الاهتمام باللغة الفصحى التي تقلص دورها في حياتنا إلى الحد الأخطر, و الذي نؤشر عليه هنا بتلك الركاكة المؤسفة و ذلك العجز المخيف عن خلق لغة عربية سليمة و صحيحة لدى التلميذ و الطالب الجزائري, باعتبارهما ينتميان إلى أوسع و أكثر شريحة تتعامل مع اللغة الفصحى في المجتمع. هذا الابتعاد عن الاهتمام بتلقين اللغة العربية – لغة المجتمع الأصلية – أفضى إلى نتيجة أساسية, غيرت من منحى الأزمة اللغوية الجزائرية و من ثم غيرت المنحى المعرفي و النفسي للشخصية الجزائرية في حد ذاتها.

فمن المعلوم أن الدارجة أخذت الكثير من الفصحى طوال عقود, لكن الابتعاد التدريجي عن الاهتمام بالفصحى و إهمال تدريسها وفق خطط و استراتيجيات علمية و منهجية سليمة, أفضى في العشرين سنة الأخيرة إلى قطع الطريق و الصلة بين الفصحى و الدارجة,  و من ثم فإن الفرد الجزائري الذي وجد نفسه غير ملم بلغته الفصحى, و مع تزايد اهتماماته و مشاكله و مشاغله و التغيير الكبير الذي حصل في نمط حياته العقلية و النفسية و الاجتماعية بسبب التغيرات التكنولوجية العالمية..., وجد أن لهجته العامية ما عادت قادرة على التعبير عن كل تلك الاحتياجات و ذلك الواقع, فكان له أن قام بتكييفها و تطويرها لكن دون الرجوع إلى مصدرها الأول ( العربية ) لأنه فقد الصلة به, بل من مصدر آخر و هو لغة المستعمر التي عادت لتغزو بيته و عقله و أفكاره ,عن طريق الفضائيات الفرنسية التي أحكمت قبضتها على الفكر و المجتمع في الجزائر طيلة عشرية التسعينيات, قبل أن تساهم الثورة الرقمية في الحد منها في العشرية الأخيرة, و هذه حقيقة يوقنها الجميع.

و لو أن دراسات مقارنة أو إحصائيات أجريت بخصوص اللسان العامي و اللهجة الدارجة الجزائرية فيما يخص أصول تراكيبها و مصطلحاتها, بين عقد السبعينات و عقد الثمانينات و عقد التسعينات, قد نلاحظ عندئذ التغير الهائل و التحول العميق من استعارة تلك التراكيب من اللغة الفصحى إلى استعارتها من اللغة الفرنسية, خاصة في المجالات المرتبطة بالأنشطة التجارية و الخدماتية و العلمية.

إن شل التطور الديناميكي للهجة العامية المبني على الأخذ من اللغة الفصحى و الذي كان آخر الخطوط الهشة للدفاع عن شخصية المجتمع, و تفعيل أخذها لتراكيبها و مصطلحاتها من اللغة الأجنبية, يشكل أحد أهم الوجوه المبطَّنة لتقدّم عملية تفكك الهوية الوطنية و القومية كمفهوم و كقيمة كبيرة في ذهن الإنسان الجزائري, و برأي كاتب هذه الأسطر, فهو لا يعتقد أن سبب هذا التيهان يعود إلى التنوع اللساني و اللغوي في الجزائر, الذي يرى البعض أنه سبب هذا العجز الواقعي في العثور على الإحساس الجامع بالهوية الوطنية و تقاسم عيشه بين جميع الجزائريين, لأنه في كل الأحوال كان يمكن أن يستثمر ذلك التنوع لخدمة الفكر و المعرفة و الثقافة الشعبية, من أجل الحفاظ على تماسك كينونة المجتمع, و بالضرورة خدمة الوحدة الوطنية و حماية الأمن القومي في النهاية, لولا التخلي عن اللغة القومية نفسها و إهمال مكانها و دورها, فالمشكلة ليست في التنوع بعينه بل في رؤية البعض لما يُمكن أن يفعله ذلك التنوع من زاوية سلبية من جهة, و من جهة أخرى إصرار البعض الآخر و في أعلى مستويات المسؤولية في مناصب اتخاذ القرار, على الاستمرار في تهميش اللغة العربية الفصحى, و غياب إرادة حقيقية لتوطيد مكانة اللغة الأمازيغية الطبيعية بما يكفل لها الانتشار المُمنهج و التطور الحتمي, و عدم وجود سياسة واقعية و حقيقية و مشروع ضارب من أجل إعادة بناء و تشكيل تدريجي للروح اللغوية العربية و الأمازيغية في الذهن الجزائري.

إن المشكلة و التحدي الأساسي الذي يطرح نفسه في قضية اللغة و الهوية في المجتمع الجزائري, ينطلق أساسا من عدم فهم القائمين على شؤون البلد تماما كالمواطنين, بأن سر الوصول إلى هوية وطنية حقيقية و متجذرة قائمة على لغة المجتمع الفصحى أو الأصلية, لا ينطلق مما تقدمه كتب اللغة في الابتدائيات و الإعداديات, بل ينطلق أبكر من ذلك بكثير في المجتمعات ذات التنوع اللساني على شاكلة المجتمع الجزائري, أي مع بدء الطفل في اكتساب لغة محيطه العامية و التي عن طريقها تبدأ معالم علاقته المستقبلية بلغته الفصحى تتشكل, لكن الأمر يتوقف على مدى ارتباط لهجته الأولى مع تلك اللغة الأصيلة, دون نسيان الحديث عن التنشئة الاجتماعية و نفوذ وسائل الإعلام و موادها ( وطنية– قومية أو أجنبية ) على عقل المواطن, يضاف لذلك الحالة الثقافية و الفكرية في
البلد و مدى ارتباطها بنفس المصدر الأول دائما: " اللغة ".

Aucun commentaire: